بسم الله الرحمن الرحيم
قبس من نور
"... وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ..."
أصلا النزاع قائم على أشده بين بني البشر على الحكم والسيطرة والنفوذ وتراق دماء وتزهق أنفس وتعتقل وتسجن من أجل السلطة والمصالح الشخصية والنفعية ...ويتم تصفية المعارضة أين كانت دون رحمة، ولا نقول هذه سنة الله في خلقه وإنما الطمع والاستبداد والسباق المحموم،
وقد سجل القرآن على الإنسان تملصه من الاختيار الرباني ...
"وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"247 البقرة
آية تصور حقيقة كذب طلبهم وما يخفون في أنفسهم والله يعلمه، ربنا أجاب طلبهم وبعث طالوت ملكا عليهم والآن بدأت المراوغة منهم وتقديم المعاذير فقطع القرآن الطريق عليهم - وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ – إذن يؤتي الله أمر الملك لمن يشاء اصطفاء من لدنه أو من قبلهم بناء على الغلبة ملكا عضوضا يسوده الظلم والعنف وشتان بين هذا وذاك، والتاريخ أثبت ذلك في سالف الزمان فما تقول في عمر بن العزيز رحمه الله وما يحصل الآن ؟...
نعود بعد هذه المقدمة والتوطئة لآية العنوان وهي 26 من آل عمران "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
فالآية بينت أن مالك الملك في كل شيء هو الله وهذه من المسلمات، وما دون ذلك فالإنسان يمتلك الأشياء ويتصرف في تلك الملكية شبيه بالإعارة ثم يأتي الآخر ويمتلكها مؤقتا وهكذا ثم "...وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ..."94 الأنعام
إتيان الملك كلمة مرغوبة ومحببة لدى النفس البشرية فكلما زادت ملكيات الإنسان ومقتنياته أصبح ثريا وهنا موضع الاختبار مثل قارون "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي..."78 القصص وما وما في القصة من نزع تلك الثروات بالخسف والغوص في أعماق الأرض،
بعد الإتيان تأتي مرحلة النزع والإزالة والضرب على كل الممتلكات بأنواعها وتصور حتى منطوق الكلمة تنزع الملك الأخذ بقوة قوية فأنت تملك وترفض التنازل عن ذلك الملك المخول لك مؤقتا فيأتي صاحب الحق - مالك الملك- فينزعه من بين يديك كما تنزع الروح ورغم شدة حرصك وإن استعنت بالغير يتخلى عنك فلا جدوى من التعنت والمعاندة،
لفتت كريمة تؤتي الملك – من- تشاء بكل يسر وسهولة والثانية وهي النزع تنزع الملك - مِمَّنْ – تشديد الميم دلالة على قوة النزع وعودة الملك لمالكه رغم أنفك، وأفضل صورة مصورة لهذه الواقعة هي قصة قارون في سورة القصص عد وأقرا تلك القصة
ولم يقف الأمر عند هذا الحد أنظر الإهانة والإذلال والسقوط من علو مرتفع إلى سوقة غير ذات قيمة بعد تمكن وعزة وقوة ونفوذ وطاعة وثروة ونعيم كثير...
كلمات في آيات تعز من تشاء - وتذل من تشاء- بيد الخير... الحياة هي حسن المعاملة وليس القهر كنتم في قصور وبيوت وسيارات وطائرات فارهة وجند قال فرعون مصر" قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي"51 الزخرف، ثم وبعد "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً...92 يونس،
بعد هذا العز والمكانة المرموقة أصبح مخلوعا مطاردا ومطرودا ومطلوبا للعدالة لاجئا لظروف إنسانية، متهما باللصوصية سارقا لما أؤتمن عليه ، شاحب الوجه مذهولا ومهموما ومذموما ومحتقرا حتى من أقرب الناس اليه نزعنا عنه كل هيبة ووقف خائفا يترقب مصيره وضاقت عليه الدنيا بما رحبت ومجردا من كافة الألقاب كالجثة إلا قولهم الرئيس المخلوع تمنى على الله لو تبلعه الأرض أو تهوي به الريح في وادي سحيق...
أنظر تلك الصورة المجسمة التي كانوا فيها تعرض أمام الجمهور والبؤس يلاحقهم بعد النعيم أينما حل أو فَلّ "كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } بدأت الآية بكلمة كم الاستفهامية عن كثرة متع الحياة التي كانوا فيها من كل نوع لا تتوافر إلا لكم وذرياتكم فقط والباقي جوعى،
والآن تركتموها هاربين بِخُفَّيْ حُنَيْن وأنتم الآن تتحسرون وتتألمون على تركها للغير الذين استولوا عليها فركبوا السيارات الحديثة والطائرات الخاصة وتنعموا في كل الثمرات والبيوت وناموا على فرشكم وجلسوا في مجالسكم الوثيرة وحدائقكم المعلقة المزينة واستولوا على كل شيء وأنتم مبعدون مقيدو حركة التنقل والذهاب والإياب تعيشون في شقق صندوقية تحت حماية ووصاية أجنبية مختطفين تحت الإقامة الجبرية دون أدني حرية بالأمس كنتم تأمرون وتنهون واليوم كل موقف وكلمة عليكم محسوبة مرصودة حتى وإن كنتم تملكون قصورا شاهقة فهي مغتصبة من أموال الشعوب ومسروقة "حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ "91 ،92 يونس
تقديم الدكتور أحمد محمد شديفات / الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق