رداء نيســـو .. قصة قصيرة
الحمصي المتارك ،،،
كعادتها خرجت ام الشهيد بعد ان ساعدت زوجة ابنها في أشغال البيت ... رغم تقدمها في السن ، فهي لازالت تصحو لأداء صلاة الفجر ، لتبدا يوما كسائر أيام توهانها في غمرة ماض تلاشت توابته، و اضمحلت عضلات عنفوانه .
خرجت من البيت الكبير بقريتها التي زفت إليه كعروس لزوجها أبو القاسم المقدسي . هذا الرجل الذي فجر جدوة النضال ضد المستعمر . كان مهابا من جميع أترابه و هو طفل . كما كان زعيما في جميع مراحل حياته . و هو في سنته العمرية الثامنة ، كون جيشا من اترابه . صنع لهم سيوفا من خشب السنديان ، ليغزو به معاقل عدو مفترض بالقبيلة المجاورة ، لأن احد اطفالها اعترض سببيله و هو في طريقه للمدرسة .
كانت أم توهان مضبوطة الموعد للجلوس تحت شجرة التين الباسقة ، السادلة ظلالها في هذه الساعة الحارة من فصل الصيف ، بعد ان تفترش سجادتها المزركشة بجمبع الوان الطيف الفلسطيني البهي .
فوق الرابية المطلة على سهل يذكرها بأيام باخ ضياؤها ، و تسربلت ايقونات ملامحها بضبابية مجهول كاتم للأنفاس . تجلس و يداها اللتان لا تهدآن . تقلبان بخفة آلية مغزل و صوف ، تسد بهما ضائقة مالية لابنها توهان ، الذي يجتر أيامه الموشومة بقلق حاضر ، يمور في اتجاه طحلبة طموحاته المتطلعة لهجرة نحو حضارة ، تعتمد إشباع فضول تكنولوجي حداثي غير متوفر له هنا .
وسط عبق رائحة أوراق التين المنعشة ، تسبح أم الشهيد مدندنة بكلمات غير مسموعة . لكنها متجلية تعكس ترانيم تراثية ، تحكي جمال الصبايا في المروج ، و هن يجلبن الماء من ساقية المنحدر ، أو يدررن الماء على بعضهن البعض ، امام أعين مختلسة للرمق المحتشم ، من وراء ستار اخضر قصبي المنبت .
كلما استظلت بهذه الشجرة المسنة سنين صاحبتها . تذكرت يوم الزرع كعربون على حبها لأبو القاسم . وحبها لهذه التربة التي ستسكنها ، و ستتجدر فيها تجدر الزمن في أوصال الأحقاب الغابرة ، لوجود هذا الانسان المتدفق بين ثنايا و سطور التاريخ القادم من العدم .
لايمكن لضحكات حنظلة و سناء ، أن لا تسمعهما أدناها الملتقطتين لكل كبيرة و صغيرة . رفعت أم توهان عينيها المثقلتين بأوزار السنين البعيدة ، بعد شبح الطفلين اللذين لا يفارقان جدتهما طوال اليوم . خفق قلبها و انتعش احساسها لطرد شيطان وحدتها و خلوتها من شدة حبها لهما . هذه الخلوة التي لايمكن لمخلوق ان يخترقها او يعكر صفو نسيماتها سوى حنظلة و سناء .
بمحياها الوضاح استقبلتهم زوجة الشهيد و اجلستهم على ركبتيها ، رغم عدم قدرتها على تحمل جسديهما . و كيف و هما الامتداد لذات الصفي الحمول القادر على الانبعاث من هذا الحنظلة المشع ذكاء ، و المتضرم حماسة . إنه الاستمرار المنتظر النابع من رحم فورة بركان إسمه أبو القاسم المقدسي . هذا الذي حمل روحه على راحته و انطلق دون الالتفات لإفك ساقه قادم من وراء البحار . إنه حنظلة الذي اشتمت فيه رائحة العزيز الذي قاطع الحشوة و الردالة . المقدام الذي ارتجز ضد الخانعين و العملاء و الساقطين من بني جلدته .
_ نريد الذهاب الى المدينة جدتي .
_ ستذهبان الى المدينة بداية السنة الدراسية إن شاء الله لإتمام دراستكما هناك . و سأبقى وحدي هنا . تقول الجدة حارسة لهذا الربع المزهو بألوانه .
و إذا بحنظلة ينتفض سائلا جدته .
_ لمن هذه المنازل الجميلة التي تبنى على التلة المقابلة لنا يا جدتي.؟؟؟؟
_ انها مستوطنات الصهيونية التي سلبت منا ديارنا و ارضنا و مزارعنا و زيتوننا ، و كل شيء كنا نملكه في هذا الربع يا حنظلة . لقد سرقوا فلسطين كما يفعل اللصوص بالليل يا ولدي .
_ و لماذا لا نملك بيتا كهذه التي تبنى هناك . تسأل سناء .
_ لقد سرقوا حتى اموالنا و وضعوها في بنوكهم كما قال لي ابوك . لقد منعوا عنا الغداء و الدواء و الشمس و الهواء بقوة الرصاص و أسلحة الدمار الشامل كما يفعلون الآن دائما يابني .
_ من هم يا جدتي . ؟ تسأل سناء .
_ الصهاينة يا بنيتي . المستقدمون من رحم الحثالة و الحقد و الظلم . انهم احفاد حثالة شعوب الشرق و الغرب الأوروبي يا بنيتي .
_ و من أتى بهم إلينا ياجدتي . ؟
_ الغرب الحاقد علينا ، و على ثرواتنا الطبيعية ، و على ديننا ، و على عروبيتنا و على حظارتنا و ثقافتنا التي شربوا من ينابيعها حتى الثمالة ، و بعد قضائهم و طرا منا . و بعد تخاذل حكامنا . يعملون الآن على اقصائنا و تجريدنا من هويتنا و أتباعنا لهم بما تشتهيه ريحهم .
_ ما دامو لصوصا . لماذا لا ترفعين شكواك الى القاضي . ؟
_ هم القضاة و هم الحكام . و هم الجاتمون على اوصالنا يا بنيتي . و أوصال بعض حكامنا المنبطحين .
لم ينتبه حنظلة الى الحوارالذي دار بين جدته و أخته . لكن بصره ظل شاخصا تجاه التلة الأخرى ، الحاضنة لهذه المستوطنة التي نشات كالفطر ، و في زمن قياسي لم ينتبه اليه أحد من سكان القرية الغارقة في ظلمة الفقر و الحاجة . تساءل عن هذا الدخيل القابع في غير كنهه ، و الذي يبث رعبه أينما حل و ارتحل . فطن رغم حداثة سنه لهذا الأخطبوط الذي تمطى على الأرض طولا و عرضا. محاولا التقحم رغم الهامات المقاومة و الشبيهة بالهضاب و الحزن . ثم صرخ باعلى صوته في هذا الوادي الفسيح .
_ اين أنتم يا إخوة لنا في اللغة و الدين و الدم..؟؟؟. ألا ترون ان ثالث الحرمين الشريفين يهود في كل دقيقة و في كل ساعة . ألا ترون ان أرض فلسطين شفطت بما فيها مقرات السلطة ؟؟؟ هل شلت يمينكم دفاعا عن مسرى الرسول عليه الصلاة و السلام ..؟؟؟.ماذا تقولون لرب العالمين يوم الحساب ؟؟ لقد كبرت الهوة يا أندال العرب و المسلمين .
كرر حنظلة النداء حتى تقحطت أوداجه . فكان لا يسمع إلا صدى صوته المبحوح .
_ مع من تتكلم يا حنظلة ..؟؟؟ تسأل الجدة . ليس أمامك الا الصبر و الاعتماد على سواعدك و مقاومتك يا بني . لقد أقفلت الحاكمية العربية آذانها مند زمن طويل . و الحاكمية الغربية الزارعة لهذا الكيان القزم لا تريد ان تسمع و ترى ما تفعله العنجهية الصهيونية بأرواح الأطفال الرضع من تدمير مساكنهم على رؤوسهم .
ما رايك يا بني في أن ابدأ لكم حكاية اليوم ..؟؟
_ نعم نعم جدتي ...تقول سناء ..
_ اسمعوا يا ابنائي ....حكاية اليوم هي من القدم ... و بما تختزله من الحكم . و انسلال شعرة شعب من عجين خباز ظالم .
_ كيف جدتي ... كيف..؟؟؟؟
_ انها اسطورة احد القناطير . يقاطعها حنظلة
_ و ما هي القناطير جدتي؟؟؟؟
_ القنطور يا بني هوكائن اسطوري . نصفه رجل و نصفه الثاني حيوان و يسمى نيسو . في يوم من الأيام حاول ان يعتدي على الفاتنة ديانيرا ، و هي زوجة البطل الإفريقي هرقل الذي لايشق له غبار . و بغفلة منه طعنته الفاتنة طعنة قاتلة . و قبل ان يلفظ انفاسه الأخيرة ، فكر في الانتقام منها و ذلك بإهدائها رداءه الذي طلاه بدمه المسموم ، على اعتبار انه يملك قوة خارقة لقضاء كل ما يستعمل لأجله .
_ و في ماذا ستستعمله ديانيرا ياجدتي . وهي زوجة هرقل . و كل شيء مت؟.اح لها . يقول حنظلة .
_ لقد أوعز لها نيسو بأن هذا الرداء ، يصلح في حالة ما إذا أصبح هرقل زوجا خائنا ، و غير مخلص . يمكنها بهذا الرداء إعادة إخلاصه و حبها الضائع .
_ و هل خانها هرقل ؟ . تسأل سناء .
_ نعم يا بنيتي . خاصة عندما مجها و تركها . ارسلت له رداء نيسو كهدية . و ما أن تسربل به حتى أحس هرقل بالرداء المسموم الذي علق بجسمه . و للتخلص من عذاباته . ألقى بنفسه في بركان إيتنا و احترق .
_ قصة عجيبة جدتي . يقول حنظلة .
_ نعم يا حنظلة . فهي صورة طبق الأصل لما قام به الغرب المتصهين ، حين زرع وسط و طننا العربي هذا الكيان المسموم . و إن لم يقتلعه من ارضنا . فسيجلب عليه الخراب و الدمار كما وقع لهرقل . و البدايات واضحة . و الباقيات على الطريق .
الحمصي المتارك ،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق