الأحد، 12 نوفمبر 2023

رداء تيسيو/بقلم الحمصى المتارك مجلة روائع الشعر والنثر وفرسان الحرف

 رداء نيســـو .. قصة قصيرة

الحمصي المتارك  ،،،


كعادتها خرجت ام الشهيد بعد ان ساعدت زوجة ابنها في أشغال البيت ... رغم تقدمها في السن ، فهي لازالت تصحو لأداء  صلاة الفجر ، لتبدا يوما كسائر أيام توهانها في غمرة ماض تلاشت توابته، و اضمحلت عضلات عنفوانه .

 خرجت من البيت الكبير بقريتها التي زفت إليه كعروس لزوجها أبو القاسم المقدسي . هذا الرجل الذي  فجر جدوة النضال ضد المستعمر . كان مهابا من جميع أترابه و هو طفل . كما كان زعيما في جميع مراحل حياته . و هو في سنته العمرية الثامنة ، كون جيشا من اترابه . صنع لهم سيوفا من خشب السنديان ، ليغزو به معاقل عدو مفترض بالقبيلة المجاورة ، لأن احد اطفالها اعترض سببيله و هو في طريقه للمدرسة .

كانت أم توهان مضبوطة الموعد للجلوس تحت شجرة التين الباسقة ، السادلة ظلالها في هذه الساعة الحارة من فصل الصيف ، بعد ان تفترش سجادتها المزركشة بجمبع الوان الطيف الفلسطيني البهي .

فوق الرابية المطلة على سهل يذكرها بأيام  باخ ضياؤها ، و تسربلت ايقونات ملامحها بضبابية مجهول كاتم للأنفاس . تجلس و يداها اللتان لا تهدآن . تقلبان بخفة آلية مغزل و صوف ، تسد بهما ضائقة مالية لابنها توهان ، الذي يجتر أيامه الموشومة بقلق حاضر ، يمور في اتجاه طحلبة طموحاته المتطلعة لهجرة نحو حضارة ، تعتمد إشباع فضول تكنولوجي حداثي غير متوفر له هنا .  

وسط عبق رائحة أوراق التين المنعشة ، تسبح أم الشهيد مدندنة بكلمات غير مسموعة . لكنها متجلية تعكس ترانيم تراثية ، تحكي جمال الصبايا في المروج ، و هن يجلبن الماء من ساقية المنحدر ، أو يدررن الماء على بعضهن البعض ، امام أعين مختلسة للرمق المحتشم ، من وراء ستار اخضر قصبي المنبت .

كلما استظلت بهذه الشجرة المسنة سنين صاحبتها . تذكرت يوم الزرع كعربون على حبها لأبو القاسم . وحبها لهذه التربة التي ستسكنها ، و ستتجدر فيها تجدر الزمن في أوصال الأحقاب الغابرة ، لوجود هذا الانسان المتدفق بين ثنايا و سطور التاريخ القادم من العدم . 

لايمكن لضحكات حنظلة و سناء ، أن لا تسمعهما أدناها الملتقطتين لكل كبيرة و صغيرة . رفعت أم توهان عينيها المثقلتين بأوزار السنين البعيدة ، بعد شبح الطفلين اللذين لا يفارقان جدتهما طوال اليوم . خفق قلبها و انتعش احساسها لطرد شيطان وحدتها و خلوتها من شدة حبها لهما . هذه الخلوة التي لايمكن لمخلوق ان يخترقها او يعكر صفو نسيماتها سوى حنظلة و سناء .

بمحياها الوضاح استقبلتهم زوجة الشهيد و اجلستهم على ركبتيها ، رغم عدم قدرتها على تحمل جسديهما . و كيف و  هما الامتداد لذات الصفي الحمول القادر على الانبعاث من هذا الحنظلة المشع ذكاء ، و المتضرم حماسة . إنه الاستمرار المنتظر النابع من رحم فورة بركان إسمه أبو القاسم المقدسي . هذا الذي حمل روحه على راحته و انطلق دون الالتفات لإفك ساقه قادم من وراء البحار . إنه حنظلة الذي اشتمت فيه رائحة العزيز الذي قاطع الحشوة و الردالة . المقدام الذي ارتجز ضد الخانعين و العملاء و الساقطين من بني جلدته .

_ نريد الذهاب الى المدينة جدتي .

_ ستذهبان الى المدينة بداية السنة الدراسية إن شاء الله لإتمام دراستكما هناك .  و سأبقى وحدي هنا . تقول الجدة  حارسة لهذا الربع المزهو بألوانه .

و إذا بحنظلة ينتفض سائلا جدته .

_ لمن هذه المنازل الجميلة التي تبنى على التلة المقابلة لنا يا جدتي.؟؟؟؟

_ انها مستوطنات الصهيونية التي سلبت منا ديارنا و ارضنا و مزارعنا و زيتوننا ، و كل شيء كنا نملكه في هذا الربع يا حنظلة . لقد سرقوا فلسطين كما يفعل اللصوص بالليل يا ولدي .

_ و لماذا لا نملك بيتا كهذه التي تبنى هناك . تسأل سناء . 

_ لقد سرقوا حتى اموالنا و وضعوها في بنوكهم كما قال لي ابوك . لقد منعوا عنا الغداء و الدواء و الشمس و الهواء بقوة الرصاص و أسلحة الدمار الشامل كما يفعلون الآن  دائما  يابني .

_ من هم يا جدتي . ؟ تسأل سناء .

_ الصهاينة يا بنيتي . المستقدمون من رحم الحثالة و الحقد و الظلم . انهم احفاد حثالة شعوب الشرق و الغرب الأوروبي يا بنيتي .

_ و من أتى بهم إلينا ياجدتي . ؟

_ الغرب الحاقد علينا ، و على ثرواتنا الطبيعية ، و على ديننا ، و على عروبيتنا و على حظارتنا و ثقافتنا التي شربوا من ينابيعها حتى الثمالة ، و بعد قضائهم و طرا منا . و بعد تخاذل حكامنا . يعملون الآن على اقصائنا و تجريدنا من هويتنا و أتباعنا لهم بما تشتهيه ريحهم .

_ ما دامو لصوصا . لماذا لا ترفعين شكواك الى القاضي . ؟

_ هم القضاة و هم الحكام . و هم الجاتمون على اوصالنا يا بنيتي . و أوصال بعض حكامنا المنبطحين . 

لم ينتبه حنظلة الى الحوارالذي دار بين جدته و أخته . لكن بصره ظل شاخصا تجاه التلة الأخرى ، الحاضنة لهذه المستوطنة التي نشات كالفطر ، و في زمن قياسي لم ينتبه اليه أحد من سكان القرية الغارقة في ظلمة الفقر و الحاجة . تساءل عن هذا الدخيل القابع في غير كنهه ، و الذي يبث رعبه أينما حل و ارتحل . فطن رغم حداثة سنه لهذا الأخطبوط الذي تمطى على الأرض طولا و عرضا. محاولا التقحم رغم الهامات المقاومة و الشبيهة بالهضاب و الحزن . ثم صرخ باعلى صوته في هذا الوادي الفسيح .

_ اين أنتم يا إخوة لنا في اللغة و الدين و الدم..؟؟؟. ألا ترون ان ثالث الحرمين الشريفين يهود في كل دقيقة و في كل ساعة . ألا ترون ان أرض فلسطين شفطت بما فيها مقرات السلطة  ؟؟؟ هل شلت يمينكم دفاعا عن مسرى الرسول عليه الصلاة و السلام ..؟؟؟.ماذا تقولون لرب العالمين يوم الحساب ؟؟ لقد كبرت الهوة يا أندال العرب و  المسلمين .

كرر حنظلة النداء حتى تقحطت أوداجه . فكان لا يسمع إلا صدى صوته المبحوح .

_ مع من تتكلم يا حنظلة ..؟؟؟ تسأل الجدة . ليس أمامك الا الصبر و الاعتماد على سواعدك و مقاومتك يا بني . لقد أقفلت الحاكمية العربية آذانها مند زمن طويل . و الحاكمية الغربية الزارعة لهذا الكيان القزم لا تريد ان تسمع و ترى ما تفعله العنجهية الصهيونية بأرواح الأطفال الرضع من تدمير مساكنهم على رؤوسهم .

ما رايك يا بني في أن ابدأ لكم حكاية اليوم ..؟؟

_ نعم نعم جدتي ...تقول سناء ..

_ اسمعوا يا ابنائي ....حكاية اليوم هي من القدم ... و بما تختزله من الحكم . و انسلال شعرة شعب من عجين خباز ظالم .

_ كيف جدتي ... كيف..؟؟؟؟

_ انها اسطورة احد القناطير . يقاطعها حنظلة 

_ و ما هي القناطير جدتي؟؟؟؟

_ القنطور يا بني هوكائن اسطوري . نصفه رجل و نصفه الثاني حيوان و يسمى نيسو . في يوم من الأيام حاول ان يعتدي على الفاتنة ديانيرا ، و هي زوجة البطل الإفريقي هرقل الذي لايشق له غبار . و بغفلة منه طعنته الفاتنة طعنة قاتلة . و قبل ان يلفظ انفاسه الأخيرة ، فكر في الانتقام منها و ذلك بإهدائها رداءه الذي طلاه بدمه المسموم ، على اعتبار انه يملك قوة خارقة لقضاء كل ما يستعمل لأجله . 

_ و في ماذا ستستعمله ديانيرا ياجدتي . وهي زوجة هرقل . و كل شيء مت؟.اح لها . يقول حنظلة . 

_ لقد أوعز لها نيسو بأن هذا الرداء ، يصلح في حالة ما إذا أصبح هرقل زوجا خائنا ، و غير مخلص .  يمكنها بهذا الرداء إعادة إخلاصه و حبها الضائع .

_ و هل خانها هرقل ؟ . تسأل سناء .

_ نعم يا بنيتي . خاصة عندما مجها و تركها . ارسلت له رداء نيسو كهدية . و ما أن تسربل به حتى أحس هرقل بالرداء المسموم الذي علق بجسمه . و للتخلص من عذاباته . ألقى بنفسه في بركان إيتنا و احترق .

_ قصة عجيبة جدتي . يقول حنظلة .

_ نعم يا حنظلة . فهي صورة طبق الأصل لما قام به الغرب المتصهين ، حين زرع وسط و طننا العربي هذا الكيان المسموم . و إن لم يقتلعه من ارضنا . فسيجلب عليه الخراب و الدمار كما وقع لهرقل . و البدايات واضحة . و الباقيات على الطريق .


الحمصي المتارك  ،،،


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق