الأحد، 26 مارس 2023

مجهول العنوان/بقلم صفوان القاضى مجلة روائع الشعر والنثر وفرسان الحرف

 "مجهول العنوان"


لم تكُن حُفنة أحزان، أو كومة أجراح ومتاعب، على ظهر عجوزٍ كاد أن يُخرِّف قبل أن يشيخ.

بل كانت عالمٌ تتعالى أناتهُ الصاخِبة من فرط الألم، الذي فيه، وسيلٌ يذرفُ بالقيح اليومي على خدود التُعساء. 

إنها آهاتٌ لا تكُف عن الصُراخ، ولا تهداء عن الأنين.

حياةٌ مليئةٌ بالأحداث الموجِعة، والأخبار الفاجِعة.

إنها أكبر من خيال كاتب يُبالغ بِفصاحتهُ في تشبيه فتاةٌ حمقاء، بصورةٍ جماليةٍ بليغة كما يعتقد.

بل وأكبرُ من قصيدةَ شاعرٍ يسردُ فيها قِصةٍ عاشها في أسوأ اللحظات، أو لم يعشيها، بل شَعَرَ بِها ولكن كيف يستطع بإمكانهُ تصوير ما ذكرتُ، وبأي صورةٍ بلاغيةٍ لا توجد في عقلهُ، ولا تستطيع البلاغةِ ذاتها أن توصفها. إنها تُعاش ولا تُحكى! 

هِيَ قِصةُ تعاسةٍ أكبر من الحِكايات والأقاصيص، بل هِيَ بحرٌ يتصببُ بالألم، ويُهيج بأمواجٍ تسحق الأمل بضجيجٍ يرتعِدُ حربًا بِداخلنا، وأسىً عالقٌ في نفوسنا، بل مقبرةٌ دفنت كل جمائلنا حية، وأيقظت أصوات المدافع في مسامعنا.

إنها فِتنةٌ أكبر من أن تُحشر بسطرٍ أو تُعتقل بِنُقطة. 

حتى إننا لم نملك الوقت الكافي لتِذكار حياةٍ عامِرة عِشناها بِمرحٍ ولهو. تمنيناها ولم تعُد. أو لتِذكار صديقٌ نبيل، وصاحبُ غالي، وحبيبٌ مُقدس. 

ولا حتى ثانية لتصفيةَ فِكرنا من شرودهُ، بعد الشتات. أو لملمةٍ أملٍ مُنقرض، لم يُعد قادِرًا على تحمُّل حالة انقراضهُ بعد.

الوقت يُداهمنا حتى اللحظة، في الآونة الأخيرة. حولُنا ضوضاء صاخِبة بأزيزٍ لا تكُف عن مسامعنا، ولا بإمكانُنا أن ننجو من حربٍ كهذا بِسلام. 

إنهُ يقتُل فينا كُلُ جميل! 

يقتُلُ إنسانيتنا إن كان نصرًا على الأقل. 

وهذا لا يُعني النصر العادل، بل الهزيمة بِأقل الخسائر!

ولكن ينتابني شعورٌ أقربُ للوهم، بأن أكون مُقتنعًا في البقاء بِعيشٍ هكذا، وحياةٍ ذليلةٍ للأبد. 

نتوارثُ فيها الخيبات، ونتبادلُ المأسي، والجِراحُ لا تندمل. 

أُفكِرُ كيف نُعالجُ أسقامُنا والبلاءُ مُنتشر عبر الشرايين، بين الدم في الأوردةِ ذاتها. 

بل كيف نستطع أنْ نتحمل الهزل، وأجسُادنا مُنهمكةٌ أنهكها التعب، وأثقلُها الأرق، في ليالي السُهاد، بعد إيقاظُها من سُكرِ السُبات لتحسو الأسقام. 

كانت الصحوى الأولى من متاهات الحُلم العقيم، وغفلة الأماني والطموح العاقِرة، إلى التجالُس مع شرور الكأبةُ والحسرةَ والمُوجِعات. 

ما أقبح شعور الكِتابة، عندما تكون المأساة أكبرُ من المقال، والمأتمُ أكبرُ من الخيال، والحزنُ أكبرُ من بلاغةٍ تحسو الجمال، بِصورةٍ مُتكامِلةُ الكمال. 

فتُصاب أنتَ بالإنفصام، قبل الإنتقام!

إنها فوضى أكبرُ من أنْ تتسعُ لِحبسِ العواطِفُ في وكرها، والأحلام في جُحُورِها. 

فوضى لا تُصوَّر في بيت شِعرٍ، ولا تُحكَّمُ بين شطرُ بِقافيةٍ، ولا تُحدَّدُ على بحر.

إنها خرساء توصفُ بالبلاهةِ، واللُغةِ التي تُعاش ولا تُكتب. 


مرةً آخرى!

ما أقبح أن نبيع أغلى ما لدينا مُقابِلُ ثمنٍ رخيص. 

نارٌ تُضرم ولا نستطيع إطفاؤها، وأعراضٌ تُهتك ولا نستطيع التصدِّي لها، 

حياةٌ تتظاهرُ كالعاهِرةُ أمام فُتيةُ لا يرغبون لاستجابةَ تلبية رغباتُها بالإثم. 

لا يكفي لأن تعيش في هذا العالمُ القبيح بالإهانةُ، بل أنْ تُقدِّمُ نفسكُ أمام المشنقة للخلاصُ من العيش فيه. 

حين تعجز العقول البشرية عن إيجاد الحلول المُناسبة المُقنِعةُ للجميع بحلٍ لائقٌ يرضاهم، بدلاً من أنْ يخضعون إلى التفاهةُ الفاظعة، يُجبّرُ المرءُ حينها على الخلاص بأي شاكلةٍ نكراء.

بدلاً من أنْ تُشعلُ النار للدفئ من ناحية، ومن ناحية أخرى للحريق، لابد أن هناك من يحرقون ويكتوون بلظاها، والآخر يدفؤن. 

لكن يبقُ السؤال عالقًا حينها: 

سؤالٌ يقول: من سيدفع ثمنُ هذا الخطاء المُرتكب، من قِبل أحمق؟؟ 

كان من المُمكِنُ أنْ ننحاز عن ضوضاء الحرب، عن أنين الموتى فوق التُراب ، عن الأصوات المُتعالية، عن كلِ شيءٍ يُشكِّلُ إزعاجًا لنا بالذات. وننعزل إلى حيث نجدُ الهدوء و الراحةُ النفسية!

كي ننجِبُ فِكرةٌ يحبلُ منها الصواب، ونستعيد بِفضلها القوةُ الكافية لبناء مدينةٌ حسناء تُتوجِّها الأبراج، وتُزيُنها القُصور المُشيدة، اللائقةُ بتُعساء القوم. 

غير المُدن المُهدمة، والقُصور المُحطمة والهِضاب الحارقة. 

نخرجُ من بين رُكام الموت، إلى حيث لا نسمعُ غوغاء. إلى حيث نُحاكي الأحلام فتُجيب، والخاطرُ فيُطيب.

إلى حيث نرى الجبال سُهولاً، والقفار حُقولاً والحُرية رأس مالاً.

إلى حيث نتفوهُ بالكلام بدلاً من البنادق ونستبدلُ الرصاص بالأقلام، ونكتبُ الشِعر بقافيةٍ ونظام. 

نرحلُ عن رعب الموت، لنستعيد الرغبة لمواصلة العيش، بشغفٍ مؤكسد بالهواء العليل، بعد التلوث. 

ولو نقتات التُراب ونرتشف كأسًا من رحيق الغياب، ونركب غيمٍ على متن السحاب... يكفي التأمل لمناظرُ الطبيعة الخلاب.

يكفي أن تُعلن العصيان، وتبدأ بالتمرد، من أجل مُستقبلك الطامحُ بهْ منذُ أنْ بدأت تعرفُ نفسك. 

يكفي أن تُثابر لكي تُحقِّق كل ما يجول في بالك. وتخطط كقائدٍ لمسيرةٌ تود أن تراها أن تكون كيفما شئت. 

رغم اندلاع الكوارث فكر كيف تخرجُ من مأزقٍ جاثم، إلى سبيلٍ واعظ ودليلٌ صائب، يُحدِّدُ لكَ اتجاهٌ أمان.


صفوان القاضي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق