بسم الله الرحمن الرحيم
قبس من نور
"... وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ ..."
هاهو القرآن الكريم ينقل الصور للمشاهد في كل مناسبة كأنها تحصل للتو فالقصص القرآني ليس ترفا فكريا أو قصة عابرة أو حكاية أو رواية من بنات الخيال تذهب أدراج الرياح وإنما جاءت تعيش حياة الإنسان كلما جاء وقتها وزمانها ...
هذه الجزئية وردت في آية 20 من سورة ياسين وما تلاها "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" سبق هذه الآية آية 12تثبت وتدلل على ما ذكرت وأشرت اليه
قال الله تعالى "... وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ"
كل ما يقوم به الإنسان ويقدمه في حياته يطلع عليه بعد بعثه من مماته موثق بالكتابة، حتى آثار أعماله وخطواته "...ورَدَ عَنْ جابِرٍ رضي الله عنه «أنَّ النَّبِي ﷺ بَلَغَهُ أنَّ بَنِي سَلِمَةَ أرادُوا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِن مَنازِلِهِمْ في أقْصى المَدِينَةِ إلى قُرْبِ المَسْجِدِ ،وقالُوا: البِقاعُ خالِيَةٌ، فَقالَ لَهُمُ النَّبِي ﷺ يا بُنِي سَلِمَةَ دِيارَكم، تُكْتَبْ آثارُكم ”مَرَّتَيْنِ" رواه مسلم
إذن إحصاء الأعمال والآثار حقيقة واقعة وهذه هي العدالة الربانية "...وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا "13،14 الإسراء
بعد هذه المقدمة نأتي لصفة هذا الرجل الذي اكتملت فيه كافة عناصر الرجولة والعزيمة والقوة والهمة والأمل لأنه يحمل رسالة وهذه الرسالة تستلزم التضحية من أجلها ،
من أين أتي هذا الرجل من أقصى المدينة من مكان بعيد ليس من وسطها أو من دونها دليل على أنه بذل جهد ومشقة...جلب أنتباه المشاهدين إلى حركته وسعيه الجاد نحو هدفه مسرعا الخُطى لنصرة ونجدة وإتمام متابعة رسالة أولئك الرسل دون أن يشغله شاغل أو يعيق حركته أحد، والآن وصل للقوم المرسل اليهم ، وإن رغبت في معرفة ما دار من حديث عد لتلاوة أوائل سورة ياسين...
النتيجة هذا الرجل دفع ثمن دعوته التي يحملها بين جنبيه حياته شهيدا " قِیلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ یَـٰلَیۡتَ قَوۡمِی یَعۡلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِینَ"27،26 ياسين
فالروابط الإيمانية صلة رحم بين المؤمنين فهذه الأمة حملت رسالة لن تموت دون تبليغها رغم التهاون والتخاذل والضعف لما فيها من رجال أشداء في الحق ونصرة المظلوم مهما كلف الثمن فهل أغلى من الروح شيء؟ وكم رجلٍ يُعدُّ بألف رجلٍ... وكم من رجالٍ تمرُّ بلا عداد!
لا تكن ممن يمرون بلا عداد فالحياة فرص وأفضل الفرص وقت الشدة والمحن بها تعرف معادن الرجال:- وَمَا أَكْثَرَ الْإخْوَانَ حِينَ تَعُدُّهُمْ... وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قلِيلُ.
مثال هؤلاء الماهِر جاء من قلب الصحراء كأنّه الأسد الهَصور فقد كان للتو يجوب أطرافها بحثا عن صيد ثمين يليق به وهو القناص الذي لا تخيب سهامه، تزود بكل ما هو ضروري من زاد وخير الزاد التقوى، وبعد أن ودع أهله وجيرانه وأطفاله من حوله كأفراخ القطا تحضنهم أمهم وهي تنظر اليه تحدثها نفسها حديث السيدة هاجر فقالت هاجر لإبراهيم عليه السلام: لمن تتركنا هنا؟ فلا يرد عليها! فقالت المرأة المؤمنة : ءالله أمرك بهذا ؟ قال : نعم، قالت: إذًا لن يضيعنا"
وقد أعد العدة لرحلة طويلة دون عودة، شطر فيها قلبه نصفين نصف أبقاه لأطفاله ووالديه وأهله والآخر حمَل روحَه على كفّه وهو ينظر الشهادة ويسعى لها بين خافقيه نصرة للحق المبين الذي شهد به العالم أجمعين على أؤلئك المجرمين،
وأنطلق الماهِر اسم على مسمى ولكل له من اسمه نصيب‘ عدت وبحثت عن المسمى فالماهر المُتَفَوِّق في عَمَله، مَن يُتْقِن عَمَله ببراعة، مُجيد عمله حتّى الاِتقان، بمعنى بارع حاذِق،
وأما أبيه وأصله الجازي في القاموس العربي :- هذا رجُلٌ جازيكَ من رَجُلِ: حَسْبُكَ وكافيك،
فالماهر سعى سعيا جادا من بين الجبال والسهول والوديان نحو الكرامة والرفعة والشهامة ينظر من قلبه الذي يتفطر ألما وحزنا وكمدا على أهل تلك الديار الذين تخلى عنهم الأهل والجيران فدب في عروق دمه النخوة والأصالة والعقيدة فكانت فرصته الوحيدة التي لا تتعوض ونفسه تتوق به وتنازعه حتفه الأخير على أرض فلسطين فسجل اسمه سريعا صريعا مضرجا بدمائه مع الشهداء الخالدين على أرض العزة والكرامة إلى يوم الدين...
"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا "23 الأعراف
تقديم الدكتور أحمد محمد شديفات/ الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق