بسم الله الرحمن الرحيم
قبس من نور
"... فَامْتَحِنُوهُنَّ ..."
القرآن أفضل بيان " لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" آية 10 الأنبياء...يحفظ ذكر الإنسان صاحب التقوى لأنه الأقوى والأجدر بذلك الذكر الذي يتلى في القرآن الكريم لبقاء إثره الذي تميز به، فامتحنوهن وردت هذه الجزئية في سورة الممتحنة الآية 12"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا جَاۤءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَ ٰتࣲ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَـٰتࣲ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ..."
هذه الآية بالذات نزلت بعد صلح الحديبية فقد جاء عمرُ بنُ الخطابِ. فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ! ألسنا على حقٍّ وهم على باطلٍ؟ قالا (بلى) قال: أليس قتلانا في الجنةِ وقتلاهم في النارِ؟ قال (بلى) قال: ففيمَ نُعطي الدنيَّةَ في ديننا ، ونرجعُ ولما يحكم اللهُ بيننا وبينهم؟ فقال (يا ابنَ الخطابِ! إني رسولُ اللهِ. ولن يُضيِّعني اللهُ أبدًا..."بسبب شروط الصلح المجحفة، ومنها ما أشارت اليه الآية أعلاه من إرجاع المسلمين للكفار،
وبعد الصلح ظهرت معضلة إرجاع النساء هل ينطبق عليهن ما ينطبق على الرجال ويشملهن الإرجاع، هذا ما سوف نسلط عليه الضوء في حياة فتاة أسلمت في سن مبكرة وكان والدها لا يعلم ذلك منها رغم جبروته وتسلطه ووجاهته في قومه فهو من أَعْتَى المشركين فقد رمى سَّلَى الناقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولف ثوبا على رقبة الرسول يريد خنقه أنه الشقي عقبة بن أبي معيط عليه من الله ما يستحق من العذاب،
طبعا كان في حياته شرسا في عداوته لله ورسوله وكانت له بنتا اسمها ام كلثوم وعلى الرغم مما عرف عنه من تلك الصفات والجلافة والقساوة إلا أن ابنته أم كلثوم شرح الله صدرها للإسلام فأسلمت وكتمت إسلامها عن أبيها وأخواتها خوفا منهم حتى تحين الفرصة لإعلانه وتمر أيامها صعاب وهي مؤمنة صابرة وكانت ذات حُسن وجمال ومكانة وثقافة كيف لا ووالدها من كبار رؤوس المشركين المعدودين ولم يمنعها الخوف ولا الرهبة ولا الترف والشرف والنعيم الذي كانت تعيشه من أن تؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، وتمر الأيام عليها مثقلة تحسبا أن ينكشف إسلامها فتخسر حياتها كغيرها ممن أسلمن...ويأتي يوم بدر فيكون الفيصل فيقتل صناديد قريش وتنكسر شوكتهم وكان والدها من القتلى،
والآن بدأت مرحلة جديدة تراودها بالاستعداد للهجرة إلى المدينة المنورة حيث يقيم الرسول صلى عليه وسلم رغم الصعوبات والعقبات التي أمامها ، فكيف بامرأة ستقطع مسافة أربعمائة كيلو ويزيد على دابة أو مشيا في صحراء موحشة لا يرافقها أحد من أهلها، طريدة خائفة أن تفشل خطتها أو يدركها أحد من ذويها فتقع المصيبة والطامة الكبرى في حياتها كل هذه التصورات واردة وأزيد منها كثير، لكن لذة الأيمان أنساها كل هذا التعب والرهبة وجدت المسير نحو طريق مجهولة في خطوات محسوبة نحو المدينة المنورة لبلوغ الهدف المنشود بأي ثمن من أجل مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت أم كلثوم خرجت من الظلمات إلى النور ،
لو أمعنت النظر والتفكير في حياة المهاجرات والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كيف جعل منهم الإسلام أمة لا مثيل لها في التاريخ مثال التضحية والبذل والعطاء للدين بحيث لا يتصوره عقل بشر امرأة كأم كلثوم تعمل هذا كله من أجل دينها والله ما حركها سوى دينها...
لا أعتقد أن جيل نزول القرآن الكريم وحملة الرسالة كغيرهم من البشر فقد تركوا الدنيا كلها وتفرغوا للدين فكانوا قادة الأمم، وهكذا إذا أردنا أن نعود للدين، فالدين التزام وعمل وحياة وأمل في هداية البشر ليس الدين قيل وقال ولا إضاعة المال كما يحصل في هذه الأيام بالمليارات والصفقات المشبوهة...
الآن وصلت أم كلثوم المدينة المنورة وأناخت رحالها مهاجرة مطمئنة بجوار صاحب الرسالة ووصلت أخبارها للتو لأهلها وضجت عائلتها وتوعدوا وأزبدوا وثارت ثأرتهم للانتقام، كيف بمحمد ؟وقد نقض بعض شروط صلح الحديبة عليه أن يرجع لنا ابنتنا أم كلثوم ...وفي المقابل دار الحديث في المدينة المنورة على عدم إعادة تلك المهاجرة المؤمنة لديار الكفر مهما كلف الثمن ...
ومازال الوحي ينزل بالقرآن الكريم على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ،فنزلت الآية المذكورة أعلاه، تشريعا لِلْمُسْلِمِينَ من رب العالمين فِيما يَفْعَلُونَهُ إذا جاءَهُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ "فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ" فالصلح لم يصرح بخصوص النساء فبقي الأمر سريانه على الرجال خاصة،
وقد ورد في صَحِيحِ البُخارِيِّ عن اختبار وامتحان المهاجرات «فعَنْ عائِشَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ كانَ يَمْتَحِنُ مَن هاجَرَ مِنَ المُؤْمِناتِ بِهَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ اللَّهُ ﴿يا أيُّها النَّبِيءُ إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة»: ١٢] وزادَ ابْنُ عَبّاسٍ فَقالَ: «كانَتِ المُمْتَحَنَةُ أنْ تُسْتَحْلَفَ أنَّها ما خَرَجَتْ بُغْضًا لِزَوْجِها، ولا رَغْبَةً مِن أرْضٍ إلى أرْضٍ، ولا التِماسَ دُنْيا، ولا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنّا، ولا بِجَرِيرَةٍ جَرَّتْها بَلْ حُبًّا لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ والدّارِ الآخِرَةِ، فَإذا حَلَفَتْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو عَلى ذَلِكَ أعْطى النَّبِيءُ ﷺ زَوْجَها مَهْرَها وما أنْفَقَ عَلَيْها ولَمْ يَرُدَّها..."
فهذه الحادثة بالذات نزعت الموالاة فيما بين المؤمنين والمشركين، على أساس إما ان تكون مؤمنا صادقا مع الله، أو مشركا عدوا لله ولو مع أقرب الناس اليك أمك وأبيك،
قال الله تعالى "وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا..."15 لقمان، فالأيمان بالله لا مساومة عليه، والمعروف والصحبة للوالدين وغيرهم طبيعة التعامل بين بني البشر لا ضير علينا في ذلك وإلى الله المستقر...
تقديم الدكتور أحمد محمد شديفات/ الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق