بسم الله الرحمن الرحيم
من هدي النبوة
(أتدرون من المفلس )
قال صلى الله عليه وسلم :-
" أتدرون من المفلسُ ؟
قالوا : يا رسولَ اللهِ المفلسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ،
قال : إنَّ المفلسَ من أمتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ
وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مالَ هذا
فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه فإن فَنِيَتْ حسناتُه
قبل أن يقضيَ ما عليه أخذ من سيئاتهم فطُرِحَ عليهِ ثم طُرِحَ في النارِ"
هذا الطرح أجل وأنفع الأساليب التعليمية والتربوية للمسلمين وتنبيه شديد اللهجة للمحافظة على المكتسبات التعبدية من فروض ونوافل وأعمال خير...وقد تكفل الله بحفظها إذا صاحبها رعاها وأهتم بها بالذات وبكل أنواع الحرص وعدم التفريط والإسراف
قال الله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا..."
هذا الأسلوب الراقي ليس غريبا عنه صلى الله عليه وسلم فحديث الإفلاس بدأ كمحاورة بينه وبين صحبه الكرام رضوان الله، حتى يصل بهم إلى الاحتراس من الوقوع في الإفلاس الأخروي، بعد جوابهم ومعرفتهم بحقيقة الإفلاس الدنيوي.
أراد صلى الله عليه وسلم نقلهم وشد أنتباههم فيما يعود عليهم بالفوائد المتوخاة الدائمة حتى إذا ما ورد موضوع الإفلاس الدنيوي أول ما يتبادر لذهن السامع رابط مفلس الآخرة، لأن مفلس الدنيا أخف وطأة ممكن يسدد دراهم أو متاع ويدفع ما تراكم في ذمته أو يتنازل صاحب الحق عن بعض حقه أو يعينه أهله على السداد إذن طرق شتى ممكن يبرئ ذمته دون أن يلحق به ضرر أو حيف أو سجن أو تهلكة ...
أما مفلس الآخرة التصور في السداد على خلاف ذلك فهو يظهر غني بما أدخر لنفسه من طاعات ومكتسبات من صيام وصلاة وزكاة يأتي بها يوم القيامة،
قَالَ صلى الله عليه وسلم :- ( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ) قَالَ ثَوْبَانُ راوي الحديث: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا" صحيح ابن ماجة ...
لكن المصيبة تكمن في تصرفاتهم ومعاملاتهم وتقصيرهم في حق أنفسهم فالمسلم عمل عملا صالحا إلا أنه نقضه من أصله "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" 23 الفرقان،
وهنا تظهر مشكلة لم تكن في الحسبان ولم يحسب لها حساب وخسارة فادحة وقد كان في غفلة عن ذلك"لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"22 ق وهو ظهور أصحاب حقوق دَائِنون ليس ديونهم مالية وإنما حقوق متنوعة وصفها صلى الله عليه وسلم – شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا...
وطريقة إيفاء تلك الحقوق مخيفة وعجيبة وغير متوقعة الآن الإنسان في اليوم الآخر مجرد من كل أشياء الدنيا "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ..."94 الأنعام
إذن لا حول ولا قوة للبشر في سداد الدائنين مثل الدنيا، وإنما في الآخرة طريق استيفاء الحقوق طريقة مبتكرة توافق الحال والمآل وصعبة جدا "...وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا"49 الكهف "
الآن نحن في اليوم الآخر لا دراهم ولا متاع من أجل الدفع والسداد بطلت القيم المادية والمعنوية لتلك الأثمان،
الآن أمام محكمة العدالة الربانية العملة المتداول إما حسنات أو سيئات مقايضة بين المكتسبات التعبدية، يبدأ أصحاب الحقوق بالمطالبة وتظهر مشكلة استيفاء كامل حقوقهم من المدين من حسناته بداية حتى فنائها ويأتي الآخر ويستوفي وهَلُمَّ جَرًّا وتبدأ المقاصة حتى إذا نفذت الحسنات ولم يعد له حسنات وأنكشف حساب الحسنات وأعلن إفلاسه من هذا الطرف، عندها لا تتوقف عملية المحاسبة والمقاصة تستمر بأصعب مما كانت وتنذر بقرب نهايته، يؤخذ من سيئات الدائن بما يساوي كامل حقه فتطرح سيئاته فوق سيئات المدين ثم يطرح في النار فعلا عملية معقدة ورهيبة تضع الإنسان أمام محاسبة وصفها سيدنا عمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه : حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنَّه أخفُّ عليكم في الحسابِ غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبرِ{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}18 الحاقة
الهدف من الحديث المحافظة على كل ما أمرت به من قبل الله وعملته على الوجه الأحسن أن تحافظ عليه حتى تنال ثوابه ،وهي دعوة إلى مجتمع مثالي نظيف من كل ما يكدر صفوه كما كان على عهد النبوة كالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، قال الله تعالى"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" 9 الحشر
إذن قياس مجتمعاتنا اليوم مع واقع تعاليم إسلامنا ومبادئه قياس مع الفارق نعم نصلي لكن لا نلتزم بأخلاقية الصلاة
"... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ"45 العنكبوت
" الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ..." 197 البقرة،
كل هذا حاصل في الحج لا ينكره أحد من سباب وشتم وقذف وطواف نساء كاسيات عاريات اين نحن من؟ "حديثه صلى الله عليه وسلم : منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ. متفقٌ عَلَيْهِ،
هذه عباداتنا حركات وهيئات وتطبيقات بدون روح واطمئنان وإيمان وخشوع وبدون أثر على أنفسنا إلا ما رحم ربي، فالأمر يدل على الإفلاس الديني في الدينا قبل الآخرة ... فليأخذ كلا منا الحذر لنفسه قبل يوم لا مفر منه بالتوفيق ...
تقديم الدكتور أحمد محمد شديفات/ عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق