لَحَظَاتٌ مِنْ يَوْمِيَاتِ بَصِيرٍ
===
أَنِيقٌ في ِلِبَاسِهِ، وَعَلَى عَيْنَيْهِ نَظَّارَةٌ سَوْدَاءُ قَاتِمَةٌ، فِي يَدِهِ اليُسْرَى كِتَابٌ لَمْ أَتَبَيَّنْ مِنَ الْغِلَافِ عِنْوَانَهُ. وَأَصَابِعُ يَدِهِ الْيُمْنَى لَا تَفْتُرُ عَنْ لَمْسِ صَفحَات الكِتَابِ فِي إِيقَاعٍ مُنْتَظِمٍ، كَأَنَّهُ يَرَى الْحُرُوفَ بلَمْسِ أَصَابِعِ كَفِّهِ.
مِنْ حِينٍ لآخَرَ يَرْتَشِفُ الْقَهْوَةَ مِنْ فِنْجَانٍ أَحْضَرَهُ النَّادِلُ وَوَضَعَهُ عَلَى الطَّاوُلَةِ الْمُجَاوِرَةُ لِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ، تَرَاهُ يَتَذَوَّقُهَا بِتَمَعُّنٍ بَالِغِ الْحِرَفِيَةِ، وَكَأَنَّكَ أَمَامَ جَلْسَةٍ لِأَفْضَلِ مَتَذَوِّقِي حُبُوبِ الْبُنِّ. وَيَزِيدُ عَلَى بَهْوِ الْمَقْهَى رَوْنَقاً، اِنْبِعَاثُ صَوْتِ فَيْرُوزَ الْمَلَائِكِي. فيَتَمَايَلُ فِي أَدَبٍ وَطَرَبِ، مُنْتَشِياً عَلَى نَغَمَاتِ الرَّحْبَانِيَيْنِ، وَيُرَدِّدُ بَعْضَ الْمُقْتَطَفَاتِ بِصَوْتٍ هَامِسٍ مُنْسَجِمٍ مَعَ لَحْنِ الْأُغْنِيَةِ، وَفِي خِضمِّ ذَلِكَ رَنّ هاتِفُهُ الْجَوَالُ، تَوَقَّفَ لِيَرُدَّ عَلَى الْمُكَالَمَةِ، بَدَا صَامِتاً دُونَ أَنْ يَنْبِسَ بِكَلِمَةٍ،اِسْتَنْتَجْتُ مِنْ سُرْعَتِهِ فِي إِتْمَامِ الْمُكَالَمَةِ، أَنَّ الْأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِالسَّاعَةِ النَّاطِقَةِ تُنَبِّهُهُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ وَقْتٍ. صَفَّقَ بِيَدَيْهِ بِرَنَّةٍ لَافِتَةٍ، حَضَرَ عَلَى إِثْرِهَا النَادِلُ، فَنَاوَلَهُ وَرَقَةً نَقْدِيَة مقَابِلَ خِدْمَتِهِ. تَنَاوَلَ النَّادِلُ الوَرَقَةَ فِي دَرْدَشَةٍ مُقْتَضَبَةٍ، والْاِبْتِسَامَةُ لَا تُفَارِقُ وَجْهَهُ، وَبَعْدَ أَخْذِ واجِبِ الْمُعَامَلَةِ رَدَّ لَهُ الْبَاقِي مِنَ النُّقُودِ. شَكَرَهُ الزَّبُونُ بِاحْتِرَامٍ تَارِكاً لَهُ إِكْرَامِيَةً عَلَى الطَّاوِلَةِ.
بَعْدَ ذَلِكَ، جَمَعَ مُسْتَلْزَمَاتِهِ فِي حَقِيبَةٍ جِلْدِيَةٍ. غَادَرَ الْمَقْهَى، وَهُوَ يَخْطُو فِي تَوَاضُعٍ، مُرَكِّزاً فِي إِصْغَائِهِ، بِسُرْعَةٍ وَبِدِقَّةٍ مَتَنَاهِيَتَيْنِ، عَلَى صَدَى نَقَرَاتِ عُكَّازِهِ الْأَبْيَضَ اللَّوْنِ، كَأَنَّهُ يَمْشِي بِسَمْعِهِ.
_____
أديب عدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق