بسم الله الرحمن الرحيم
"... عالم التنابلة ..."
عالم التنابلة عالم قائم بذاته، فمن خلال الاطِّلاع على خارطة المخلوقات البشرية ،فهم أمشاج مختلفة تمايزت عقولهم وتباينت طبائعهم وتطلعاتهم وأهدافهم وأمالهم وأفكارهم ومشاربهم ومذاهبهم وتجاربهم في الحياة ...
من خلال هذا المزيج المختلف الألوان والأمزجة البشرية المتشابكة والمتداخلة بدقة متناهية تمخضت وظهرت مساحة بشرية واسعة قليلة الإدراك والطباع والصفات ربطت مصيرها بمصير غيرها" يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)سبإ واختارت هذه الفئة ورضيت أن تكون آخر الركب في القافلة ربطت ربطا محكما بذنب البعير الذي يقوده الحمار فكرا وتفكيرا، عملا وإعمالا، قولا وتنفيذا
هؤلاء هم فئة التنابلة السواد الأعظم من الغوغائية رؤوس كبيرة فارغة وعقول بلا تفكير، تعالوا وانصرفوا في آن واحد لماذا؟؟؟
"كَمَثَلِ ٱلَّذِی یَنۡعِقُ بِمَا لَا یَسۡمَعُ إِلَّا دُعَاۤءࣰ وَنِدَاۤءࣰۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡیࣱ فَهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ" البقرة ١٧١
هؤلاء هم فصيلة التنابلة واحدهم تنبل وأخيرا تنابلة من باب الكثرة والمبالغة يتبعون قائد ماكر يستغفلهم فهم أهل غفلة يظهرون في كل عصر ومصر ،وفصل وقصر، يتكاثرون، ويتناثرون، وينتشرون كغثاء السيل زبد وشوائب متعفنة على جوانب البحار والأنهار قمامة الليل تنثرها القطط والكلاب الضآلة
فلا تحسبن هؤلاء التنابلة من الأوساط الشعبية فقط أو من الناس العاديين فالتنبل قد يحمل أعلى الدرجات العلمية والألقاب والأوسمة العالية ،وقد يكون من طبقة الشباب أو الكهول ألا أنهم في النهاية يتبعون أهوائهم وميولهم وغرائزهم البهمية دون عقلانية.
ينحدرون، وينجرون، ويلهثون ركضا كالوحوش الهائمة على وجوهها في البرية وراء متع رخيصة آنية قد يكون حرثونا أو سحلية.
فالتنبل ينكر ذاته بمحض اختياره وإرادته الوجدانية ويتنازل ويسلم مقاليد أمره وعقله وتفكيره إلى غيره ليفكر عنه دون إعمال لمداركه التي وهبها الله له، فوكيل التنبل ينطق عنه باسمه ويتحدث بلسان حاله فهذا كله دليل البلادة والوقاحة في الطباع والإحساس،
فالتنابلة رعاع في آرائهم قاصرين في تطلعاتهم وقلة فهمهم وعطائهم ،تجد التنبل منهم يهجم ويفزع مع الفزاعة كالكلب الاخوث الكلاب تلهث وهو ينبح بأعلى صوته لا على احد.
فالتنبل استخفافا واستهزاءً واستغفالا به وله يعامل كالدمية يحرك من وراء ستار بواسطة الريموت كنترول ،وينقل بدون إِرَادَتِهِ من مكان لآخر ،وقد يبعث في رحلة استجمام أو يتم دعوته إلى وليمة في فندق أو على شواطئ البحار أو يرسل في بعثة حج أو عمرة لا لوجه الله وحبا به وإنما خلاصا منه وكفاية شره،
إذن التنبل إِمَّعة يقول عن نفسه أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ وان ظلموا ظلمت لا رأي له ولا تقدير، فهو سباق للإساءة دون سبب ولا يحمده على فعله أَحَد، مهمش على كل تقدير، يدعى وقت الحاجة لتكملة العدة والعدد، ثم يترك ويهمل لا يسأل عنه أَحَد، يعيش في مجتمعه لا وزن له ولا قيمة عند أَحَد، فهو عبء على الحياة ثقل ثقيل زائد في الرحيل والتنزيل.
فالتنبل يأوي ويرقد ويعيش كالإنعام يأكل ويشرب وينام وإذا استيقظ قام ففي الشقاوة والتعاسة ينعم ويرتاح.
ومن أمثلة قلة فهم التنابلة أن تنبلا في فصل الشتاء أراد أن يظهر فهلويته وبهلوانيته فبانت تنبلته بين مجموعة من أترابه وأبناء جلدته من التنابلة أصحاب العقول القاصرة ،فلبس نظارة خضراء ونظر إلى ارض جرداء ،فقال لهم هل ترون ما أرى ،قالوا نرى ارض جرز مغطاة بهشيم محتضر تذروه الرياح كعصف مأكول ،قال ألبسوا مثلي نظارة خضراء سترون ما أرى ربيع أخضر جميل. استغرب جمع التنابلة ذلك وأنكروا عقولهم وأبصارهم فصدقوه التنبل القائد.
وهكذا التنابلة في كل زمان ومكان يرون ما يرى سيدهم وعميدهم وعقيدهم وعمدتهم وشيخهم ومختارهم يرون الأشياء بعينه ولا يصدقون ما ترى عيونهم ولا عقولهم ،ويفكر لهم وعنهم ويخطط لهم والتنابلة ينفذون أفكاره ويحققون مآربه وتطلعاته دون تمحيص أو تأمل وإنما تصديق وتسليم وتنبلة.
ومن القصص ذات الصلة ننقل لكم من أحسن ما قرأت... روى الكاتب الفرنسي "فرانسوا رابلي" قصة رجل يدعى "بانورج" كان في رحلة بحريّة على متن سفينة. وكان على نفس السفينة تاجر الاغنام "دندونو" ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها.
كان "دندونو" تاجرا جشعا لا يعرف معنى الرحمة، ووصفه الاديب الكبير رابليه بأنه يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية.
حدث أن وقع شجار على سطح المركب بين "بانورج" والتاجر "دندونو" صمم على أثره "بانورج" أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرّر شراء الخروف الأكبر من التاجر بسعر عال وسط سعادة دندونو بالصفقة الرابحة.
وفي مشهد غريب يمسك "بانورج" بزعيم الخراف من قرنيه ويجره بقوة إلى طرف السفينة ثم يلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف القائد الغريق ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني فالثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في "طابور مهيب" لتمارس دورها في القفز في كل الاتجاهات .
جن جنون تاجر الاغنام "دندونو" وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل ، فقد كان "إيمان" الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم. وهكذا التنابلة يا سادة يا كرام
تقديم الدكتور أحمد محمد شديفات/ الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق